مرحباً بكم أعزائي الكرام

مرحباً بكم أعزائي الكرام

بين رمضانين حكاية !.



تمرّ بي الأيّام بسرعة الضّوء وبدون أن أشعر مايجري حولي من التغيّرات الملموسة، فهاهي مرحلة الطّفولة قدأدبرت، بصدقها، ببراءتها وبفرحها الغير المصطنع، بحلوها وبضحكاتها، بعذوبتها وبنظراتها الشّاردة للمارّة، وكنت أيّامها أتمتّع في مراتع الصّبا ولياليها المليئة بالذّكريات الجميلة وعالمها المتميّز ونهارها المحشو بالأفراح والإبتسامات العريضة مع الأتراب، ألهو وأمرح مع الخلّان بتلك الألعاب التّي بدت تافهة في كبري بعد أن كانت في منتهى الرّوعة والإطراب، ظفرة في زفوف الذّاكرة عند تذكرها تتشكّل صور العبث وعلب الألوان وأصبحت تلك الأطياف ذات طعم ومذاق خاص، ارتحلت وحلّ الإزدحام والضّوضاء محلّ الهدوء والسّكينة، ولم يبق من تلك الملامح الجميلة سوى صور وأشكال تتداعى على ذاكرتي من أمكنة ووجوه وأحداث تجتاحني كسيل جارف، وتنسيني بلحظات الحزن ومرارة الغربة، وصخب الحياة وخشونتها، وكلّ مافيها من تقلّبات دائمة، وبيني وبين ذاكرتي ألفة دائمة وترابط وجداني لايتغيّر بمرور الزّمن.

كبرت عظامي واصبحت دليلاً على شيخوختي، وبدأت الأعوام تتداول بي رغماً عن أنفي تسوسني أينما هي تشاء، وظلّت ليالي الهرم والعجز مقبلة ومتتالية بلاانقطاع، فالتزم عليّ بعض الواجبات الدّينية والشعائر الإسلامية التي كانت الطّفولة أكبر حاجز ومانع بيني وبينهم، ومن هذه الواجبات شهر رمضان المبارك الّذي أنزل فيه القرآن الكريم، شهرٌ صارت نشاطات إبليس الملعون ضئيلة لاتأثير لها.

شاء حسن الطالع أن أصوم شهوراً مضت وأزمنة قد أفنت في حضن أمي وقرب وسادتها المتميّزة وأمام نظراتها الجذّابة الموحي بالحنين الجارف والحبّ الأزلي وساحتها الرّائعة اللّامثيل لها، وكانت تلك الأيّام المرّصعة بعبق الزهور تظلّني بخدمة أخواتي الصّابرات في الكدّ والمتاعب وكان عطاءهنّ وبرّهنّ الأزلي ينصبّ عليّ بكيفية لاأبوح لكم ولاأجد لهنّ كلماتاً تلائق كرمهنّ وجُود أياديهنّ التي دأبت بالعطاء والمرونة الباهرة.

أنقلب في وقت خامِل من النهار -قبل المغيب بساعة- من ساحة الأقران والزّملاء وقد أرهقني حديثهم السّخيف والألعاب الزّهيدة المشهورة في بلدي خلال الأيام الرّمضانية كالنّرد مثلاً، فأجيء بحارتنا وقد أفرش لي السّجاية والفراش النّاعم والوسادة معاً فأستلقي عليها بكل طمأنينة، وقد أعددن بقرب هذه الأشياء الأطمعة الخفيفة التّي اعتدناها في بلدي كالتّمر والبطاطس والسانبوس المثلّث وشراب المانجو الطّبيعي العذب المريح في بيئة بعيدة عن كلّ مايزعج الإنسان ومايجلب له من الضوضاء والنّفسيات الهالكة، وكان ذاك الجوّ المرح يخيّلني في أنّني أتمتّع بطبقات من الفردوس وأرائك النّعيم الموعود للمؤمنين لمافي تلك الأيام من الجمال المبهر والمتعة الفائقة.

انصرمت واستأصلت عنّي تلك الأيام الجميلة التّي كانت الأخوات يحتضينها وأقبلت عليّ بليالي حالكة سوداء وطال ذيل المشّقة العصيبة في أرض السّودان الشّقيقة، ورغم حلوها وجمالها وليونة شعبها الأزلي وسخائهم الباهر لم تزل نفسي تشعر بمرارة الغربة وكآبة منظرها، فتتالت الأيام ومضى عام وأقبل عام آخر ولم أزل أفتقد تلك الصّابرات اللّاتي عرفت برّهنّ بعد الزّوال، واليوم وأنا أتجوّل في شهر رمضان أصبح لازماً ومفترضاً عليّ أن أقوم مقامهنّ، أطبّخ وأتخبّط في المطبخ وأسعى جاهداً تؤذيني البصل والسّكين الحاذ ولهيب النّار الحريق، ليس هذا ضعفاً منّي ولكنّها تترجَّم عن حياتي معهنّ في صالات الوطن الباهر ومدى عطفهن على نفسي التّي اعتادت بالإستراحة العريضة والفرحة العامرة.

أيتمتني الغربة وأربكتني مرارتها، ورمتنى في بيئة نائية عن المراتع الخضرة، وأرخت سدود لياليها الحالكة عليّ، أعثرتني وأشعرتني بأنّ للحياة جوانب عديدة غير الذي عايشته في صغري، وأيقنت أيضاً بأنّ النّعيم لاتدوم على ابن آدم مادام هو يتجوّل في خرز الحياة الدّنيوية، ليس هذا محصوراً بي ولكنها بليّة عمت الأقران والخلان، فهم في المهجر متضررون ومصروعون، لايترحم بهم أحدٌ غير الذي رأى هذه الحياة بأم عينه، فأصبح جلّهم يتغنّون بألفاظ مماثلة ومتشابهة ومطلعها  (iskaabulooy iridaha ku ooy )    ولكنّ السّؤال إلى متى تدوم هذه الحياة المحفوفة بالكد والمتاعب بكل أنواعها؟!.

وبالمناسبة لفّ انتباهي بشدّة وأنا في إحدى مقاهي الخرطوم -أتجاذب أطراف الحديث هناك مع زملائي الكيسمايويين  في المهجر - بورقة متداولة في يد صديق لي لامجال هنا بذكر اسمه، رميت بنظراتي الفضولية نحوها أتابعها بمافي حشوها عن كثب، فلمح بي وشعر  بأني استغربت تلك الورقة فأعطانيها مبتسماً قائلاً: شوف يابرلوم!، وإذا فيها مكتوب بخدماتهم الرّمضانية كالأرز والزيت والملح والخضروات والفواكه، كتيها من عبّدته الغربة وليّنته وعلَّمته رغماً عن أنفه ماكان يهمشها لماكانت أمه تحتضنه، فانغمست في الضحكات المجللة والصفقات المتلاحقة وكأن لساني حالي يوحي للآخرين مايجيش في خاطري من التعجب!.

ليست هناك تعليقات:

كـافـــة الـحـقــوق محفـــوظــة لمــــدونـــة عبـــداللــــــــه كســــمــايــــو