مرحباً بكم أعزائي الكرام

مرحباً بكم أعزائي الكرام

القسوة في الخلوات القرآنية

كان القلق يوقظني ويمنعني من الرّقاد وكانت الأحزان تغمرني طوال تلك اللّيلة التّي أخبرتني شقيقتي عزيمة الوالد – حفظه الله ورعاه – بأنه سيودّعني غداً إلى عالم الخلاوة القرآنية، ولم تكن نفسي راضية بهذه العزيمة لتكرر شكاوي الأقران على أذنيّ وفرارهم المتلاحق منها لقسوة مدرّسيها وغلظتهم الجافّة، بيد أنَّه اشتَّد عليّ الخوف لما علمت اتفاقيَّةً سريّة  بين الوالد والمعلم إذ سيكون دمي هدراً إن نالني  شيء عن المدرس كجراحةٍ أو إتلاف عضوٍ أو حتّى وإن جاءت منيّتي بيده، وليس لدى الوالد أيّ خيار ثان يتيحه برفض هذا الشرط الفاسد بكل مقاييس البشريّة وكان مجبوراً بقبوله لقلة أماكن التدريس الممتازة آنذاك ؛ إذ الغاية الأسمى للوالد أن يحقق أحلامه  قبل رحيله إلى الحياة الأبدية والدار النعيم، وكان المدرس متقنا فريداً ومخلصاً بعلمه، متواضعاً في مجتمعه، وناشطاً فعالاً في ميدانه، لكنه كان يشتكي بأنه لايتحكم نفسه أوان الغضب ولهذا اشترط بشروط قاسية جارحة لإتقان عمله المبارك معتمداً بالمثل الصومالي :
)Ama afeef hore lahoow ama adkeysi danbe(

نعم... كان البكاء الدائمة سمةً لي، وكان أنيني يفزع الأهل في الساعات الأخيرة من الليل شاكياً بوجعٍ أليم كالملاريا وأمثالها مع سلامتي ومعافاتي ؛ إذ القسوة التي تلقيتها عن المدرس تجبرني ببحث أيّ طريقة تمنحني باستراحة يومٍ أو يومين عن الخلاوة القرآنية، وكنت في نعومة أظفاري غير متحمّلٍ بهذا العنف الشديد الذي لايزال يهاجمني بين عشيّة وضحاها ، وفي غضون ذالك كانت تحركاتي البسيطة في ساحته تثير غضبه وتحمرُّ عيناه وكأنه في حربٍ ضروس فضلاً من أن أجلس بكيفية اعوجاجية أو لدي حاجتي الي الحمام أو هكذا، وكنت على حذر دائم ومشاعري نحو ذالك السوط اللعين الذي لايفارق دائماً بيمينه، وكلما حصلت فترة قصيرة للتفكير أتسائل في نفسي أسئلة عديدة منها : حسناً... هل من ملجأ لتلوذ بالفرار ؟! إلى متى ستستمر في هذه الورطة القاسية ؟! هل لك باختراع أيّ فكرة لتتخلص هذا العنف؟!...

لم يظهر لي أيّ اختيار سليم ينقذني ويودعني إلى واحات الأمان  لأن الأسرة أجمع قد أشرب في قلوبهم القرآن العظيم وليس فيهم من يترحّم لي إن شكوت له، ولازمني الإحباط تلك المدّة الحرجة ولم أجد أيّ حلّ لأتخلص منها أو لأخفف آلامها على الأقل، واستنتجت من كيفية تعامله معي استنتاجاً خطيراً بأن القرآن والقسوة توأمان ولايفترقان أصلاً !.

وبعد فترة طويلة شاءت الأقدار أن أنسلخ ماأعاني به من تعذيب شرس، واضطهاد فادح بعد اكمال حفظ القرآن خلال تسع شهور مباركة، وكرهت الماضي كله لتلك المدّة التي لازالت ذكرياتها تؤلمني في وقت كبر سنّي وأصبحت رجلاً فحلاً !، وفعلاً ليس هذا محصوراً بي فحسب بل المشكلة بارزة في المجتمع، عانى بها كل من مكث في عالم الخلاوة القرآنية يوماً والسؤال التى تتبادر إلي ذهن القارئ : لماذا القسوة والقرآن متلاصقان ؟ هل فقرات القرآن تأمر المدرسين بهذه الغلظة الشنيعة ؟ أم من دأب أهل القرآن القسوة والغلظة ؟ لماذا دائماً....؟!.

نعم... لاغبار بأن الشريعة السمحة مبنيةً باليسر والرحمة واللطف بالخلق أجمع وهذا مانصّ عليه القرآن في أكثر من موضع واحد قال تعالى :"فبما رحمة من الله لنت لهم ولوكنت فظّاً غليظ القلب لانفضوا من حولك"(1  وقال أيضاً: "وماأرسلناك إلا رحمة للعالمين" (2) والآيات في هذا المجال كثيرة لاأحصرها ، ولاشكّ أيضاً بأن الضرب والتأديب مما لابدّ منه ليخطط مستقبل هذا الطفل الذي لايعرف كوعه من بوعه ولتكون زاجرة عنه من التساهل والكسل اللّذان هما من طبع البشريّة واتفقت جمهور الفقهاء على مشروعية ضرب الأولاد في الشريعة مستدلين على لفظ الأمر الذي حمله جمهور الفقهاء على الوجوب - كالحنفية والشافعية والحنابلة – وهو الحديث الذي رواه  عبد الله بن عمرو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "مُرُوا أَوْلادَكُمْ بِالصَّلاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْر سنين وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِع" (3)

والضرب بشكل عام عقوبة يجوز استعمالها شرعاً فقد شرع الضرب في الحدود وفي التعزير وشرع ضرب الزوج لزوجته في حال النشوز وشرع ضرب الأولاد تأديباً لهم على ترك الصلاة وغير ذلك من الحالات ولكن ضرب الأولاد يحتاج إلى تفصيل وتوضيح والأهمّ منها أن نحمي خاطره من الإحباط والتشاؤم عن سويداء قلبه ولمجابهة تسوء نوايا الخلاوة القرآنية.

   يقول الدكتور محمد المهدي (4) : "وادعاء أن العملية التعليمية والسيطرة على الطلاب لا تتم بدون ضرب يعكس ضعفا في المهارات التعليمية وعجزا لدى الإدارة , فمن المعروف أن التربية الإيجابية تتم من خلال ثلاث عناصر وهي بالترتيب : القدوة , ثم الثواب , ثم العقاب . إذن فالعقاب يأتي في مؤخرة الوسائل التربوية , والعقاب هنا لا يعني الضرب بالضرورة , وإنما هناك عقوبات تؤثر في الطفل دون أن تؤذيه نفسيا أو بدنيا أو تجرح كرامته مثل حرمانه من بعض الأنشطة التي يحبها , أو استدعاء ولي أمره لمحاسبته , أو حرمانه من بعض درجات المواد".

    شروط ضرب الأولاد :

1 - كونه غير مبرِّح ولا شاقّ ولا ممرض.
2 -  التّأديب والضرب مشروطٌ بسلامة العاقبة فلا يجوز الضرب الذي يؤدي للضرر والتلف.
3 - أن تكون الضربات محدودة وفي عدد الضربات خلاف طويل.

ويقول التربويون أن الضرب آخر الدواء فهو كالملح للطعام، إذا وضع في الطعام بكمية كبيرة فسد الطعام، وإن وضع بكمية قليلة فإنه يصلح الطعام، فالضرب لا يلجأ إليه إلا بعد استنفاد جميع وسائل التأديب ،فمن الخطأ الفادح التوجه للعقاب البدني مباشرة وهذا المثل يستدله الكثير من علماء التربية.

آثار الضرب على معنوية الطفل عند علماء التربية (5) :

1 - ضرب الطفل يولد كراهية لديه تجاه ضاربه، مما يقتل المشاعر الإيجابية المفترض أن تجمع بينهما وتقربهما من بعض.
2 - اللجوء إلى الضرب يجعل العلاقة بين الطفل وضاربه علاقة خوف لا احترام وتقدير.
3 - الضرب ينشئ أبناء انقياديين لكل من يملك سلطة وصلاحيات أو يكبرهم سنا أو أكثرهم قوة وهذا الانقياد يضعف الشخصية لدى الأبناء ويجعلهم شخصية أسهل للانقياد والطاعة العمياء، ولاسيما عند الكبر مع رفقاء السوء.
4 - الضرب يقتل التربية المعيارية القائمة على الاقتناع وبناء المعايير الضرورية لفهم الأمور والتمييز بين الخطأ والصواب والحق والباطل.
5 - الضرب يلغي الحوار والأخذ والعطاء في الحديث والمناقشة بين الكبار والصغار ويضيع فرص التفاهم وفهم الأطفال ودوافع سلوكهم ونفسياتهم وحاجاتهم.
6 - الضرب يفقر الطفل ويحرمه من حاجاته النفسية للقبول والطمأنينة والمحبة.
7 - الضرب يزيد حدة العناء عند غالبية الأطفال ويجعل منهم عدوانيين.
8 - الضرب قد يضعف الطفل ويحطم شعوره المعنوي بقيمته الذاتية فيجعل منه منطويا على ذاته خجولا لا يقدر على التأقلم والتكيف مع الحياة الاجتماعية.

ويتأكد معظم الباحثون في دراستهم على أن إلغاء العقاب الجسدي أو حتى تخفيفه يساعد الطفل على تغيير تصرفاته المعادية للمجتمع مثلاً : ينصّ البحث الذي نشرته مجلة طب الأطفال والشبيبة وتصدرها منظمة الأطباء الأمريكية إلى أن الأطفال الذين يتعرضون للضرب دائماً ينشأون كذابين اكثر من أبناء جيلهم الذين لايضربون ميلاً إلى العنف ضد الآخرين ولا يظهرون أية مشاعر ندم على الأعمال العنيفة التي يقوم بها أو عن الأخطار التي يقعون فيها خلال مسيرة حياتهم !.

................................................

(1): سورة آل عمران 159
(2): سورة الأنبياء 107
(3): سنن أبوداود 417
(4):   رئيس قسم الطب النفسي بجامعة الأزهر –فرع دمياط
(5):   : متداولة عند علماء التربية ولم يتم العثور على صاحبها بالضبط

ليست هناك تعليقات:

كـافـــة الـحـقــوق محفـــوظــة لمــــدونـــة عبـــداللــــــــه كســــمــايــــو