في مساء يوم مرح، تزين قوز القزح بألوانها
الزاهية آفاق السّماء، ومع بيئة تتنعّم بجمال الطّبيعة المترعة بالبهجة والمسّرات،
وشقشقة العصافير، ومشوب برذاذ المطر، حينها تزامت عضلتي الأولى عن العمل الشّاق
الذي طال ذيله منذ خمس سنوات فأكثر، وحّول راحتي ونعومة أظفاري إلى شيء آخر مرعب،
عزمت أن أنتعش قليلا لأستعيد لياقتي عن متاعب العمل وصخبها مع صديق الطفولة (عزوز)،
الفريد الوفي الذي تقاسمنا الأفراح والأتراح سويا في صالات الوطن صغارا وكبارا، فجهزت
سيارتي اللّكزسية لنتوجّه نحو مواقع سياحية مزدهرة مرموقة لدى الكثيرين، فيها
مناظر خلابة تسر الوجدان وتنير القلوب كانت بقرب ساحلنا؛ الذي أصبح فيما يعد آية
في الجمال وروعة في الأناقة!.
أتذكر بوقت الصبا وعنفوان شبابي كنت
ألعب في ساحته مع خلّاني واترابي الذين من بينهم (عزوز)، كانت زيارتي هناك والألعاب
الرياضية ومشاجرة الأصدقاء –هنا وهناك- تثير في نفسي مكامن الشوق بشدّة في وقت كبر سنّي، وتستعيد ذكريات الطفولة التي
لازالت محفورة في ذاكرتي، بدأت أرتشف فنجانا من قهوة مع (عزوز) على مقاعد رخاميّة؛
لنواصل حديثنا المرصع بالإبتسامات العريضة التي تحكي عن الصداقة المتأصلة بيني
وبين (عزوز)، وتارة نلعب الشطرنج، اللعبة التي كانت تعجبنا منذ طفولتنا، وأصبحت
فيما بعد حلقة وصل وتعزيز لصداقتنا، كانت هواياتنا متقاربة جدّا، وقد لا نختلف في
كثير من الأفكار مما جعله رمزا لجمالي وعنوان فرحتي ومسرّاتي، لم يكن هناك شخص أعز
عليّ من (عزوز) الذي اتصف بعذوبة الكلام والحلم والبشاشة، كنت أتابع شفتاه بدقة،
أتلذذ بحكاياته الجميلة وما يحمل لي قلبه من مشاعر أخوية، حتى جاءت الهمسة الفارقة
التي حوّلت جلستنا إلى شيء آخر لايوصف!.
طفقت نسمات الساحل التي تهبّ من
جهة الشرق بأن توصلني بصوت نشّاز يحمل في طيّاته بألحان الحنين ونغمات التعلق،
يأتيني من مكان بعيد لم تتح لي الفرصة بتحديده، وكأن للبحر ألحان تتكلم!، حاولت
مرارا وتكرارا أن أسمع (عزوزا) هذا الصوت
المتقطع العذب؛ ليقلل حديثه -رويدا رويدا- الذي بدا لي تاقها بعد أن كان
منتهى الطرب والراحة، فلم يسمع (عزوز) مما جعله شيئا غريبا!، كان هدية الله التي
تعرفت فيما بعد بأنها تخصّني -أنا وحدي- فقط!، لازال (عزوز) يسرد لي حكاياتا
جميلة؛ ليؤدى واجب الصداقة، تارة يحكي لي
عن تجربته مع بنات حواء، وتارة يبتسم ويضحك حتي كاد أن يسقط إلى قفاه، وأنا لم
أتغير عن حالتي الأولى وكأنه لم يحصل شيء؛ لأن نفسي كانت تتوق إلى شيء آخر، بل كنت
أعتبر حديثه شيئا (مزعجا) يخلل راحتي، ويمنعني بأن أتلذذي بهذا الصوت العذب الذي
تحمل لي الرياح الشرقية كهدية ميثالية!.
لم أمكث معه مدّة كافية كما كان
موعدنا الأوّل، نهضت مسرعا، كان عزوز يناديني ونبضات قلبي كانت تتجهني نحو جهة
الشرق لأصل حقيقة هذا الشيء الذي أثّر مشاعري بهذه البساطة!، الشيء الذي فرقني
بيني وبين (عزوز) لأول مرّة في حياتي، فأصبح لعنة ترسم خريطة سوداء في جبيني!، وبعد
ساعات طويلة كنت أهرول نحو تلك الجهة يبدو
بأنني سئمت من وصول ماهية الشيء رغم عذوبته، حتى غابت الشمس وراء التلال
وخلف المباني الشاهقة التي تطلّ على الساحل، حينئذ بدأت –وأنا أطأطئ رأسي- ألعن
بهذا الشيء الذي أفنى راحتي وصيرني تائها محيراً، إلا أن في أعماقي شيء آخر
يحفزني، يوصيني إلى المضيّ قدما؛ لأتحقق ماذا سيكون حقيقة هذا الشيء الذي لايمكن
مقاومته ياترى؟!، فواصلت بالسير حتى دنيت إلى ساحة الحيّ التي تبعد عشرات من الكيلومترات
عن الساحل، بدأت نفسي تلين وترق لهذا الصوت المرح، بعدما كانت تتعود بالجفاء
والقسوة!، انتهى الصوت العذب نحو بيت متواضع كان مقفولا آنذاك، فلم يتمكن لي دخوله
سوى وثبة سحرية تجعلني فيه بتعب وعناء، وهذه الطريقة قد تتشكّل لي بمخاطر بالغة في
بيئة تتديّن بالأخلاقيات الرفيعة التي من بينها "وأتو البيوت من
أبوابها"، ومن المحتمل أن تحطني وراء الشمس كجثة هامدة غريبة لدى سكان الحيّ،
ومع خطورتها اختارت نفسي كأسمى طريقة لتصل إلى الحقيقة التي أرهقتني ساعات مديدة، بدأت
أتنفس السعداء وأن ألتمس بهذا الشيء الغريب –من هنا وهناك- بشقّ الأنفس!.
كانت ليلة دامسة للغاية لا يستطيع
المرء بأن يرى جليسه لفرط الغلس المتواجد آنذاك، والسماء تمطر والبرق الذي يشبه
الفلاشات وعدسات المصورين ينور الساحة كالمسابيح الكهربائية، على الرغم من أنّه لم
يعد من السهل أن أصل إلى منبع الصوت على الفور؛ فرارا من الإعتداء المحتمل إن
علموا بوجودي هنا وتحريا من الفشل دون أن أصل إلى حقيقة هذا الشيء الذي يزداد
حنينه في أعماقي بين الحين والآخر؛ إلا أنني حاولت أن أتسلل إلي المكان بكل عناء، أرسلت
جميع ظنوني الى عنان السماء ملحّا بالقدرة الإلهية بأن لا تخيبها في تلك اللحظة
الحزينة!، تلبست بثوب التوكّل الذي أمدّ إليّ سواعده؛ لأصل إلى المكان بعد محاولات
يائسة، تمكن لي بالإقتراب إليه من قاب قوسين أو أدنى، جلست متربعا قرب المطبخ الذي
اجتمع الناس حوله لتناول العشاء، لم أكن أترقب باستضافتهم و إكرامهم؛ طالما جئت
-هنا- بطريقة غير شرعية في بيئة يزداد تدهور الأوضاع الأمنية في بلدي، حينئذ فقدت
دليلي الذي كان يقودني منذ لحظة فراقي لصديق الطفولة (عزوز)، انقطع الصوت فبدأت
أرتجف مبديا بخيبة الأمل وعيناي تذرف دموعها الحارّة؛ لتروي لبقية الأعضاء تعازيها
الشديد ولتشعر ألم الخيبة في أعماقي، فجأة انعكس عليّ نور القمر في ليلة دامسة، نظرت نحو السماء أبحثه بذهول،
فلم أر أثر انعكاسات القمر فضلا من أراه وهو يضيء الدنيا كعادته!، رجعت بصري إلي
السماء كرّتين –أو أكثر- وكل مرّة تعود خائبة مذهلة، فجلست أتساءل ماذا سيكون
حقيقة هذا النور الذي يكاد امتداداته يقتلني؟!، نظرت أمامي وعلى يمين المطبخ وإذا
بفتاة حالمة مستلقة على قفاها، تشبه طلعة القمر والناس يتنافسون إليها لغرض ما!، نهضت
إلي الأمام، فأرخيت زمام نظراتي الفضولية متناسيا عن (غضّ البصر) الذي كان رمز
حياتي قبل تلك اللحظة الفارقة؛ لأحدق بجمال هذا الشيء مختفيا وراء خشبة بالية كانت
بقرب المطبخ!.
شاء حسن الطالع أن أبصرت النور
لأول مرّة بعد تعب وعناء، فكانت حداثة السنّ وجميلة غانية، تندثر بابهى الأنوثة
وغنجها، بهانة وعذوبة الإحساس، تتناسق طولها مع وزنها، أسلة الخدين، حسناء زرقاء
هيفاء ممشوقة الأنف محدّبة الرأس، تبرز منها الهندسة الإلهية التي صممتها وحولتها
إلى شيء آخر لامثيل له في ارض الواقع، تتميز بالإبتسامات العريضة التي لاتفارق
شفتيها بعد الحين والآخر، كانت عنوان الأنوثة والإغراء والجمال، ونوعا من الحور
الذي لم ير مثيلها بعد!، لم أستطع أن أكبح جماحي عنها طالما هي جنتي وضالتي التي
وجدتها بين عناء طويل، أصابتني حيرة منذ أول نظرة مما أدى إلى أن أضع كفّي على خدي
جاثما لفرط الذهول الذي أصابني فاقتربت إليها باندفاع شديد، وكأن لسان حالي يقول
مقولة عنترة:
يا عبل نار الغرام في كبدي ** ترمي
فؤادي بأسهم الشّرر
يا عبل لولا الخيال يطرقني **
قضيت ليلي بالنّوح والسّهر
يا عبل كم فتنة بليت بها ** وخضتها بالمهند الذكر
والخيل سود الوجوه كالحة ** تخوض بحر الهلاك والخطر
أدافع عنك الحادثات فيك ولا ** أطيق دفع القضاء والقدر
استغربت بهذا الجمال الذي يفوق
الخيال وشرعت أتساءل أفي بساتين الجنّة تتجول، وبِحُورها تشاهد كالتلفاز من قاب
قوسين أو ادنى؟!، أم هي هدية من ذاك الصنف النادر الذي ساقتني الأقدار إليه
لتختبرني بطرقها المتعددة، أأشكر أم أكفر؟!، كانت أسئلة كثيرة تخطر على بالي ولايجيب
عنها إلّا الزمن، تنبعث من عيونها –التي تزين سواد جفونها من غير أن تكتحل_ شرارة
تكاد تقتل الناظرين، دقة في خاصرتها وكبر في ساقيها، حركاتها البسيطة، ذهابها
وإيابها هي وحدها كانت توحي إليّ شيئا لا أستطيع أن أبوح لأحد، وصوتها العذب المرح
الناعم المنخفض يذكرني موسقي العشاق ورنته الجذابة، بدات اتعلق بحركاتها كمجنون
ليلي الذي ازداد حبّه وشغفه لليلي حتى جاءت منيته وهو يناديها، وانقلبت موازيني
أمام جمالها الذي يخرّ حزم الرجال أمامه، لاغرو إنه جنون العشق والغرام!َ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق