يطيب لي
ان اتحدث في هذه العجالة عن الموضوع أعلاه، وإن كان الموضوع يحتاج إلى دراسة أدقّ،
وبتوضيح أشمل، لكنني أسلط الضوء على عدّة جوانب هامة تتعلق بهذا الموضوع، ولطالما يكون المقال وجهة نظر لصاحبه، فإنه يحتمل
الخطأ والصواب ويحق لكل أحد التصحيح والنقد ولاجرح.
يعد ماهية الغلو من الأمور التي
أصبحت بديهية بأن يدرك كل شخص وبدون عناء؛ إذ أصبح الغلو عادة تلزم على رقبة كلّ
من ينتسب إلى الحراك الإسلامي في زماننا، ولربما نتجت هذه الأفكار الدامية عن
مرارة تعامل دول الغرب ضدّ الأقليات المسلمة، ولأجل هذا حصل الغلو تبريرا قويا في أوساط
المجتمع، ودافعا لايعيب صاحبه تحت عباءة دينية تحارب لأجل إعادة الرخاء والسلام في
ربوع بلاد المسلمين، ولكن الأمر آل إلى ماهو أوجع من ذي قبل حيث تضرر بأيادينا –نحن
كمسلون- كثيرين، غالبيتهم المسلمون وغيرهم من ضعاف الأمة المعتنقين بالأديان
الأخرى، ممن حرّم الله علينا أن نعتدي عليهم فرار من تشويه سماحية الإسلام، فبلغ
السيل الزبى!، وأصبحت الحركات التي تنتسب إلى الإسلام أكثر ضررا من أعدائنا وهذا
ملحوظ قد يتفق العالم بأسره بصدق المقولة!، وتحريا من العواقب السيئة التي ربما
تعيق الجهود الدعوية الجبارة لعلمائنا أصدر ثلة من علمائنا مافيه الكفاية من فتاوي
عصرية كلها توصي بصيانة دماء الأبرياء.
وحتى لانتعمق في سرد المآسي أو حتى
لايذهب خاطر القارئ بمكان بعيد فلنشرع في صلب الموضوع حتى نصل إلى فكرة المقال بوقت
وجيز، وجدير بأن نوضح معنى اللغوي والشرعي لكلمة "الغلو" التي تتكرر في
المقال، فقد عرّف بعض علماء اللغويين بأنها: مجاوزة الحدّ، ومنه غلا السعر وغلا القدر،
ومجاوزة القدر في كل شيء.
وشرعا هو: "المبالغة والتشدد
في التدين التي يلزم منها تجاوز ضوابط الديم ذاته، وكما يقول الحافظ ابن حجر الغلو
هو المبالغة في الشيء والتشديد فيه بتجاوز الحد"، ومنه قوله تعالى:
"لاتغلوا في دينكم"، وجاء في الحديث "إياكم والغلو في الدين".
وهي
ظاهرة قديمة برزت إلى السطح منذ أن أودع الإنسان في هذا الكون، فعلى سبيل المثال في
زمن نوح عليه السلام غلا قومه في حب الصالحين الذي اشتهروا بقربهم لربهم وصلة
الأرحام وكل الأشياء المحمودة، فنصبوا لهم –بعد موتهم- أعلاما تذكرهم بمحاسن هؤلاء الصالحين؛ ليقتدوا
بهم وليفيقوا من غفلة الحياة التي تلزم على رقبة كل أحد أوان رؤيتهم بصور هؤلاء،
فتطورت الأمور وتوارث جيل بعد جيل بهذه العادة حتى تحولت الأمور إلى شيء آخر لم
يتوقع!؛ أصبحت مقابرهم أصناما يعبد من دون الله، يأتي الواحد منهم ليستغيث بجثتهم،
يسرد على أرواحهم احتياجاته الفردية وماتتوق إليه نفسه فضلّوا وأضلوا قومهم عن
سواء السبيل، وقد نزل الله فيهم آيات تتلى فيها من العبر مايكفي، فيقول تعالى:
"وقالوا لاتذرنّ آلهتكم ولاتذرنّ ودّا ولاسواعا ولايغوث ويعوق ونسرا".
قال ابن
عباس رضي الله عنه في تفسير هذه الآية: "صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح
في العرب بعد، أما ودّ فكانت لمراد ثمّ لبني غطفان، وأما يعوق فكانت لهمذان، وأمّا
نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى
الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلىى مجالسهم التي كانو يجلسون أنصابا وسمّوها بأسمائهم، ففعلوا فلم
تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت" اهـ..
ليست هذه
فحسب، بل هناك كثيرون حكى القرآن عن غلوهم أبرزهم اليهود والنصارى، وقد ورد في
كثير من المواضع ماحدث بينهم وبين رسلهم
وعلمائهم، وما آل إليه مصيرهم وتعودهم بهذا الدأب القبيح، ففي سورة التوبة:
"اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمرو إلا
ليعبدوا إلاها واحدا... الخ ".
أسباب الغلوّ:
قلة
الفقه في الدين وعدم النضوج العقلي، والتقليد والتعصب الأعمى، والإستقلالية في
استنباط الحكم الشرعي دون ضابط محدد، وانعدام التربية الحقيقية الإيمانية القائمة
على مرتكزات ودعائم قوية من نصوص الوحي، من أبرز مايجدر إشارته حينما نتكلم عن
أسباب الغلو، وهذا شيء واقعي في زماننا، ترى الواحد منهم يكفّر ممن هو أعلم منه
بأمور ثنائية لاتوحي بخروج صاحبها عن الملة، وهذه الظاهرة تكون أشد وضوحا وإدراكا
حينما تعيش في بيئة تسيطرها حركة من الحركات الموجودة في الصعيد السياسي، أتذكر مرّة وفي إحدى رحلاتي
التعليمية في الوطن تشاجرت مع أحد هؤلاء الفتيات المتحمسين حينما أساء إلى شيخ من
شيوخنا الأجلاء بتهمة أنه ارتدّ عن الإسلام لطالما سجل اسمه من ضمن علمائنا الذين
أتاحوا فرصة لشريف شيخ أحمد –الرئيس السابق- ليطبق الشرع في ربوع الصومال إثر فوزه
بالإنتخابات وليسحب القوات الأجنبية وكالقصة معروفة لاتحتاج الى تذكير، تخيل شاب
صغير لم يبلغ حتى الثامنة عشر من عمره يحكم ارتداد هذا الشيخ بناء على فتاوي شيوخ
الحركة –إن وجدت-، وحينما تشاجرنا وعلا ضجيجنا أشار لي بالسبابة مسدسة كانت في
خاصرته ليبرز لي عضلاته القوية التي لاترحم، مضيفا بكلامه بأنني سأكون من ضمن الموتى
التي أهرقت دمائها تحت العباءة الدينية وبأرخص الأشياء، مما أجببرني بأن ألوذ إلى الصمت
وأن أطأطأ رأسي أمام هذا الشاب!.
صور الغلوّ:
لايمكن
بحصر صور الغلو في سطور بسيطة كهذه وإنما أنبه بأبرزها حتى تكون مدخلا للراغبين بأن يتعموا في إدراك ماهية الموضوع،
ومنها: الغلو في قبور الصالحين، والغلو في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، وتصوير
الأنبياء والصالحين واتخاذ تماثيلهم، وتحريم المباح أو المشروع تعبدا، وتحليل
الحرام، والتشديد على النفس بماهو زائد عن الحد المشروع، والمبالغة في مدح الأشخاص
لأغراض معينة، وتبديع الناس وتفسيقهم بمجرد الهوى والظن، والاستبداد بالرأي وتجهيل
الآخرين، والتسليم بصحة كل مايقوله العالم، والزعم بأنهم يحيطون بكل دقيقة وجليلة.
دور العلماء في مكافحة الغلو:
وبما أن العلماء ورثة الأنبياء
وحملة الدين، لهم دور فعال في تصدى الغلو وانتشاره في المجتمع الإسلامي، فهم درع
الإسلام ولسانه الحاذق حينما تتوالت الإشاعات التي تهدف بأن تعيق نشر الإسلام،
إضافة إلى ما منّ الله عليهم من التفقه في الدين وإجادة الفروق بين الحق والباطل بدقة،
وبناء على هذا فعليهم –وإن قدموا للأمة بعض الجهود التي تستحق بالذكر- بأن يشمرو بساعد الجد لتصدى هذه الظاهرة التي تسم
رائحة الإسلام وتشوه صورة السمحة وهذه بعض الخطوات التي ينبغي للعالم مراعاتها:
1)- ضبط المناشط اللامنهجية في المدارس سواء كانت
في التعليم العام أو في حلقات التحفيظ وحسن اختيار القائمين عليها.
2)- محاربة الغلو والتطرف بجميع
أشكاله ومسبباته وتحريمه وإيراد النصوص
المحذرة منه والمنفرة منه ومايترتب عليه من أضرار عقدية واحتماعية.
3)- نشر الوسطية والإعتدال عقيدة
وشريعة وسلوكا وتطبيقها عمليا والحث عليها والترغيب فيها.
4)- التوازن فيى الطرح الإعلامي
والديني بحيث تكون المخرجات مستقيمة عقيدة وفكرا وسلوكا.
5)- تجفيف بعض منابع الغلو
والتطرف وسدّ حاجات الشباب العلمية والعملية حتى لايستغلون استغلالا سيئا وتستغل
حاجاتهم للعمل وللمادة أو نقص مستواهم التعليمي.
الالفاظ ذات الصلة:
1)- التطرف، 2)- التنطع، 3)-التشدد،
4)-العنف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع والمصادر :
1)- الغلو، مفهومه وحقيقته
وصوره وأسبابه وعلاجه\ لأبي سلمان عبدالله بن محمد الغليفي.
2)- الدور الفكري للمؤسسات الدينية في مواجهة الغلو والتطرف\
للدكتور سعيد بن مسفر الوادعي.
(3)- لسان العرب
15\134،مادة غلا.
(4)- ابن ماجه في كتاب المناسك
باب قدر حصى الرمي 2\1008 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق