الحكاية عن السّودان وجمالها، والسّودانيين
وسخائهم الودّي قد تطول، وليس من السّهل أن أسرّد كلماتي عن هذه المشاعر الجميلة والإمتنان
الرائع، ومن العقوق حقّاً أن أبحث لهم كلماتاً تلائقهم -حتى وإن كانت في قمة الجمال-
لأحكي عنهم، ولعلّ هذا يرجع إلى عذوبة السّودان وكرم أهلها الذّين اعتادت أياديهم بالمنح
والعطاء المذهل، ولاأتفوّه بهذه الكلمات حماسةً ولكنّها تترجّم عن تعاملهم معنا –كصوماليين-
ممّا يمنحهم موطناً واسعاً من أعماق قلوبنا
ينبض دائماً حبّهم السّرمدي وحنينهم الجارف، ولاأظن أن أحداً عايش معهم -ولو بدقائق
محدودة- سينكر عليّ هذه الكلمات التي أحكيها لكم!.
يتضّح لك معاني الودّ والسخاء اللّامحدود
بعد قدومك هنا، وقد أمعنت النظر فيهم شهوراً مديدة فأيقنت أن الله لم يخلق للبشاشة
والسخاء الأزلي إلّا لشخصٍ في ارض السّودان، وعلمتني حياتهم أنه من الممكن أن يوجد
في الدنيا فردوس ثان سوى الموعودة للمؤمنين بيوم الدين، ويظهر هذا بوضوح -وكبدر القمر-
في مثل هذه الأيام الرمضانية؛ حيث تنصب علينا عطاياهم الغزيرة من كلّ حدب وصوب فاشتهر
عند الصوماليين بهذه المقولة الصادقة (السودان هي مائدة الرحمن)، ولربما يبهر الجدد
المقبلين في قلعة المعرفة والعلم –كأمثالي- عطاياهم اللّامثيل له.
هنا تفرش السّجاية قبيل المغرب أمام
كلّ منزل وتوضع عليها مابوسع الأسرة، فيادونك من بعيد بأسلوبهم الموحي بالسخاء الأزلي
–ياشاب عليك الله تفضل-، وبعضهم يتبادرون إلينا ويقرعون منازلنا بأنامل العطاء والسخاء
ويقفون عند عتمة الباب ويودعون بما في وسعهم هناك، وكالعادة نطبخ ونلعب دورنا تجاه
الفطور والسحور ولكنها بخفيةٍ شديدة حتى لايعلم بنا أحد؛ فراراً من أن نبعث في نفوس
الكرماء الغضب، ياتوننا دائما قائلين: "أنتم ضيوفنا وعارٌّ علينا بأن تطبخوا شيئاً
مادامت لنا الهوى ببلاش".
وفي نهاية المطاف أتذكر دائماً شيخاً
عجوزاً من جيراننا -هو في العقد الثامن تقريباً- صنع لنا طعاماً في إحدى أيام العيد
الأضحى المباركة؛ لنتقاسم معه الفرحة العامرة في العالم الإسلامي بحلولها، فأرسل إلينا
شابّا لنذهب معه نحو ذاك المنزل المتواضع الذي اشتهر بالسّخاء، ولكن المفاجئة كانت
أن جاءنا الرسول وقد طبخنا الغذاء في وقت مبكر فاعتذرنا له مع شكرنا له فانصرف وقد
أرخى رأسه نحو الأسفل وكأنه يشير لنا بأن إعتذارنا لايناسب له، ولم يمض وقتٌ طويل إلى
أن جاء الشيخ العجوز يهرول غضبانا كأننا ارتكبنا جريمة شنيعة من حقه، فأحلف مرارا وتكرارا
بأنّ دعوته كانت قبل طبخ غذائنا، وأن طعامنا لن ناكل منه اليوم شيئاً فاضطررنا إلى
نبرّر له قسمه وذهبنا معه، ومتى أكل كل احدٍ منّا حصّتة وشبعنا من مائدته اللانهاية
لها دعا لنا والصومال الحبيبة وأقسم بالله أنه يحب الصومال وأهلها.
رعى الله السودان واهلها العظيم، ففيها
لاشيء أفتقد به سوى الوجهين الحشيمين الموحيين بالحنين الجارف والحنون الفائق الذي
لاغنى عنه.. أمي وابي..، ودائماً يخطر على بالي أن أعجّل بكتابة المقال الذي سميته
بــ(السودان التي عشقتها) والذي لم ير النور بعدُ؛ لأجل المشاغل العويصة التي أواجهها
هذه الأيام، وكلّما حصلت فترة بسيطة للإستراحة والتفكير وعزمت بأن أكتب عنها شيئاً
لأحقق الحلم وجئت أمام الكومبيوتر تتلاشى مني الكلمات الوفيّة وتفنى العبارات الصالحة
لتعبير المشاعر عن مرفإ ذاكرتي!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق