أساتذتي أثّروا في حياتي، فأصبحوا
منارة أهتدي بها في الليالي الحالكة، وشعلة شديدة التوهج أبصر بها المحاسن
والأشياء الجميلة، ومعيناً تنصبّ من كلّ حدبٍ وصوبٍ أنهل منها في أوان العطش،
وسلاحا أتسلح به متي حمي الوطيس، بذلوا كل جهودهم الجبّارة ليذللوا لي الطريق
الوعر والشاق، فاستطعت عبوره بكل سهولة، كانوا يلقنونني دائماً بأن الحياة اللذيذة
وراء المشقة العصيبة، وأن الآمال والأحلام ستحقق يوماً رغم التحديات المتلاصقة،
وأن الولد لا يصلح حال أمته المنكوبة إلا أن يكون لكبارها وعجائزها كنعلين ناعمتين
يستخدمون للمشي كيف مايشاؤون ومتى يشاؤون، فصاروا مصدرا لإلهامي ومنبعاً هامّاً
أمتص منه الفوائد والحكم والدررالتي أصبحت معدومة في هذا العصر الذي كثر فيه الإنحطاط
والتهكُّم !.
بدأت حياتي معهم في وقت مبكر من ريعانة
الطفولة مماأتاح لي أن لاأنزلق إلى مستنقع التأخر والتخلف، فازداد لي صحبتهم ثقة
قوية واعترافا بقدر نفسي بسهولة وأنه ليس هناك مالايطاق أصلاً، فشرعت أن أوجه نفسي
نحو المفيد والمستقبل المضيء الذي لازال مشرقاً بين يديّ حتى كتابة هذه السطور،
فانقادت لي جوانب الحياة كلها سهلها وصعابها، وحتى لاتطول القائمة فإليك من تعايشت
معهم من الزمن مايكفيني ومن أبرز هؤلاء :
1.
الأستاذ
سلطان أحمد ناصر، شخصية مهذبة، وصاحب القلب السليم والحلم الجميل، الذكيّ البارع،
ذو الجمال اليوسفي وذو الصوت الجهوري الجذاب، الأديب الرائع ولينّ العريكة، درس لي
الأدب العربي في المرحلة المتوسطة وكنا نغنّي معاً بين كل عشيّة وضحاها بتلك القصيدة
الرائعة التى لازلت أحنّ إليها في كبري والتي كان مطلعها (مسلمون مسلمون مسلمون...
حيث كان الحق والعدل نكون).
2.
ولاأنسى
المربي الكبير العطوف الأستاذ محمد حسن أشكر، المتحلي بصفة التواضع والخلق الرفيع،
أصبحت حياتنا مطلة منذ مطلع هذا القرن المبتدئ، كان شعلة مضيئة في حياتي فعقد
الرمان في نفسي، القويُّ البنية وذو العضلات المفتولة، شهّام دمث
الخلق رقيق المشاعر كريم السجايا وماهر بلغة الضاد، رباني صغيراً فأحسن تربيتي
وأرشدني أن أدلى دلوي في عالم الكتابة لما اشتدّ عضدي، كونّا علاقة ضاربة في جذور
الودّ وفي سحيق القلوب، تجاذبنا أطراف الحديث في فصول التعليم وصالات الأفراح في
المهجر بعد النزوح الذي عم الجميع.
3.
ومنهم الأستاذ
محمد عمر بري المعروف بــــــ (توبي tube)، اللين الفريد في عصره، جمع
الخصال الحميدة كلها، كثير التحمّل، نشيط في العمل وصبور في الكدّ والمتاعب، متواضع
من نوع آخر وصاحب قلب سليم،كثير التحرك في إلقاء المحاضرة، وكان –في جميع أحواله- حريصاً
بتفقد أحوالنا متى انقلبنا من دراسة مادة الجغرافي، وممايهمه أكثر حال أمته
المنكوبة التى لم تحصل من يجبر كسرها بصدق وإخلاص رغم تنديداتها الشديدة وصيحاتها الأليمة
كل صباح ومساء.
4.
أضف إلي
القائمة الأستاذ بكر حاج عمر، صاحب الإبتسامة العريضة، نبيل قبل ان يستنال، كثير المزاح ، لين الجناح، الخلوق وصاحب النشاطات
الرائعة، يحفظ من القصص مايكفيك. فجرّب
الحياة بكل أنواعها فأصبح شخصية لاتنسى.
5.
ولنرصع
بالقائمة الأستاذ عبد القادر أحمد حسن، صاحب الحكايات الجميلة والمشاعر الجذابة،
النقيّ في تعامله مع الآخرين وصاحب الأيادي الرفيقة ، الوفيّ في حياته، ذو القلب
النابض بحبّ طلابه، كثير الإندماج في سلك الطلاب للتواضع، لديه من التاريخ
والحوادث ماينسيك بحاجاتك الماسة، درس لي العلوم في المرحلة المتوسطة فكان مدرساً ممتازاً
وشخصاً عظيماً يستحق بالذكر.
6.
ومنهم
خالي الحبيب محمد بدي عبده، الخطيب المفوه، المأمون البوائق، غزير العطايا، كريم يعطي قبل السؤال، وللخير في وجهه رسوم، اشتهر
بالليونة والمرونة، في العشيرة معظم، وفي الندى
مكرم، جميل الخطّ وناصح بامتياز، حشيم ومتواضع أيضاً.
7.
ولن أهمل
المربي الحنون الأستاذ عبدالرشيد، شعلة المجالس، مجتهد وعالم ربّاني، حريص بأداء
واجبه التدريسي على أكمل وجه، قوي في تصدى الأخلاق الدّخيلة اللّادينية، غيث في
المحلّ ومفيد في المحافل، عاقل بلا تفلسف، شجاع
بلا جدل.
8.
وفي سلك
الخرز الأستاذ أحمد وامو، العملاق الشامخ، هزم المعضلات بحلها، فجعل الصعاب بسيطة،
بدر يضيء الظلام، رحيم متفتّحٌ ومربّي الأرواح، يهطل
مطره الغزير على الأرض القاحلة فتغدو خضراء يانعة، مدير رائع، يحبُّ بأن
يحلل المشاكل بالتفاوض السلمي والطرق السليمة.
9.
ومنهم
الشاعر اللبيب عبدالله محمد محمود، أديب القرن وصاحب الألحان الحماسية، ومازال صوته يرنّ في رأسي
وقد كبر سني، تعلمت منه أن الشعر عالم آخر يأسرك بجماله وروعته،
رجل جذاب خلوق، وإنسان نشيط لاتنصرف عنه العيون
ولاتختار الآذان بسماع غيره وهو موجود، مأنوس متفاهم ليس بفظّ ولاغليظ ولامزعج،
مناضل وحريّ في تحريض شعبه الأبيّ، المنشد بالكلمات المشهورة:
Gumeysi
ish weeye, uf weeye, akh weeye, tigreega eryaaaaay
10. ولن أتعامي بفضل تلك المتدينة المحجبة الأستاذة
فاطمة عبدالله محمد، الخجولة الذكية الحنونة، كانت تبذل قصارى جهدها المبارك
لتوجيه طلابها نحو الأفضل والأحسن، لينة الجناح وتسمع بآراء طلابها ولاتجبرهم
بمالايطيقون، تمتلك خصال الأمومة كلها وقد يعجز الكلام عن وصفها.
11. وأختم بالذكر الأستاذ أحمد قرني، الحليم المتواضع والنجم
الساطع، الورع الطاهر، صاحب النصائح والعظات الثمينة، بنى العقول بإصرار وتضحية،
فهذب الأخلاق ونمى العقول، وهذا مايميّزه عن غيره من الرجال.
مرّت بنا تلك اللّحظات الجميلة التى
تقاسمنا معاً الفرحة والسرور دون أن أشعر، ورقصنا
معاً علي أهداب الزمان بخيلاء وشموخ، وتحمّلت
لنا الأعوام والساعات أخبارا سارة مليئة بالأفراح والبشائر والأنذار المبكرة
للأشياء الجميلة في حياتنا، وأتعجّب دائماً
كيف مرت الأعوام هكذا سريعة وكلمح البصر، ، ومن الصعب أن أنسى تلك الأرواح الزكية الذين كانوا
رفقائي في الحل والترحال في ريعانة طفولتي، ولن يزال قلبي ينبض حبّهم
السرمدي وحنينهم الجارف، وأسردت لكم هذه الكلمات لأبوح لكم ما يجيش في صدري من الحب والغرام.