جميلة
هي الكتابة، عندما تلهمك بكتابة أسطر بسيطة بتعدادها كبيرة بمحتواها؛ لتعطيك
الجرأة والإقدام في إبداء ماكان يتردد صداه في قلبك سنينا، تبرز بأعلامها المزركشة
بمعاني الحبّ والإنتماء الحقيقي لبلدة ما؛ عساها تكون أنيسا في غربتي يخفف عنّي
صدى الحنين والشوق الذي يتزايد فيّ بين الحين والآخر، وأهدافا سامية بين صرير
أقلامي وحفيف أوراقي الى تلك البلدة التي صادفت زيارتي الأخيرة إليها
قبيل المغرب وحين أشعة الشمس الحمراء ترسل سهامها
الى الكون، ونجوم السماء تكاد تبدوا أثرها بوضوح بعد عودتي من رحلة المنافي
والأماكن الوعرة التي أنحفت جسدي المنهمك بحفيف الغربة والذي يتغلب عليه –أحيانا-
حبّه الجارف لتلك (البعقة المباركة) بعد تلك السنوات العجاف كسنين يوسف عليه
السلام التي مرّت عليه في الغربة، تلك السنوات التي أصبحت ذكرياتها –فقط- منبع
الألم والشوق الذي يفوق الخيال، الي قاريسا (مدينتي) حيث الشوق والحنين!.
في
طريقي إليها كانت الأعشاب الصغيرة –التي تجيد الرقص على الرماد- والمصطفّة على
جنبات الطريق الباهر بين العاصمة نيروبي وقاريسا، وتغريد الطيور علي أفنان الأشجار
وظلالها الوارفة والتضاريس الخلابة، وأيضا الشعارات البراقة علي جنبات الطريق
ورصيف الشوارع تهيج في داخلي مشاعرا من حرير!، قبل الأشجار الطويلة التي تنثر عبق
الزهور وتخلق أجواء موغلة بالحب ومفعمة بنشوة الحنين وروحانية الأجواء، ويتسابق
جريانها مع سرعة السيّارة التي ينساب عنها نهر الأغاني الكلاسيكية والرقصات
الشعبية علي وقع الأوتار والتي تنبش
بذكريات شبابية باتت تندثر مع مرور السنين، وفي حين يصفون سرعتها بأنها تهدد
حياتنا بالفعل إلا أنها كانت تبدوا لي بطيئة الحركة؛ لعل الشوق وطول الغياب عن
أحضانها هو السبب الحقيقي!.
شعوري
كان شيئا لايمكن بأن تصفه تلك الأقلام التي تتقطع أثناء الكتابة فضلا من السيّالة
ذات الأشعة الحادّة بل وكليهما يعجزان عن
الإبانة والتعبير مهما حاول كاتبها بإبداء عضلاته الفتّاكة أمام الورقة، أستبعد
المسافة فأكرر نظراتي الى ساعتي المتواضعة وكأنّي حكم لآخر دقيقتين لمباريات
كلاسيكية بين أقوى فريقي كرّة القدم والتي يشاهدها رسميا أكثر من خمسة ملايين في
أقطار العالم حسب الإحصائيات الأخيرة، (بين فريقي المفضل برشلونة التي يزينها
حركات ميسى الساحر الأرجنتيني وبين عدوّها اللدود مدريد بوجود اللاعب البرتغالي
رونالدو)، أغمض عيناي على غفلة مني؛ لأحلم
وأنا مستيقظ في دجى النهار، أتخيّل وأنا ألتحف زرقة السماء الباهتة فی قاريسا بعد
غياب موجع طويل، أفتكر في إحدى أيّامها المشمس وأنا أندثر غمائمها كثوب فضائي يزين
الأرواح قبل الأبدان، أرسم لنفسي -وأنا أمعن النظر بنظرة رمادية بالحدائق المصفطة
على جنبات الطريق والتي تتلوّن كلوح سريالية- بعماراتها الشاهقة ومقاهيها التي
تفوح عنها هواء نقيّة مسكية الريح وملامح زهريّة المنظر والجمال صمّمها مهندس أتقن
بأعلام الزينة المبهر حتى أصبح تصميمها في منتهى الأبهى تدخل الحبور والسرور في القلوب
قبل العيون، فيطير القلب ويسكن الى حارتهم قبل الجسد، هناك حيث الأمل ينتهي!.
تزامنت
زيارتي باقتراب موعد الإنتخابات الرئاسية التي تعقد آنفا مع مطلع العام الجديد،
والمدينة علي أهبة الإستعداد لإستقبال التغيرات المتوقعة، وكانت تبدوا بأنها حصلت
رصيدا كافيا لبناء شوارعها والأماكن الحيويّة للمدينة أدّت الى أن تكون جميلة كيوم
زفافها، ورؤساء عشائرها كانوا يجيدون العطاء والكرم على أمل من رعيّتهم أن يعودوا
الى مناسبهم الشريفة مرّة ثانية بلامنازع؛ فباتت المدينة تزدهر بصورة ملحوظة، بل
ويمكن القول بأنها كانت أحسن بكثير مما كانت عليه قبل رحيلي عنها الى شعب الغربة التي
آلمتني ليصبح الأنين والعويل دأبا لي!، لاسيما الأمن فقد كان مستتبا جدا في
مدينتي، ولا يشعر المرء فيها خوفا علي نفسه أو ممتلكاته من السرقة أو ما يكدر صفو
حياته، يسهر مع خلّانه وأترابه في أبعد زاوية بالمدينة وينقلب من سمرة الليل في
ساعة متأخرة من الليل لايخاف الا الله والحُفر من العثرة!، لايصدّق بحالها -الآن- من
عايش مع تلك الأيّام التي أوجعتنا القوات المكافحة مع الشغب والشرطة وغيرهما إثر
مداهمات حركة الشباب وتنفيذ هجمات دامية في مدينتي ضدّ أبرياء لاعلاقة لهم بالحروب
البائسة التي تشتعل بين الطرفين!، فكان هذا هو الشيء الوحيد الذي أثلج صدري أكثر
من غيره من الجمال والتقدم.
أحنّ إلى تلك المنازل كلما
** غدا طائر في أيكة يترنم
بكيت من البين المشت وانني ** صبور على طعن القنا لوعلمتم!
(الحارث
بن عباد)
في
مسائها المشوب بعبير المسك وضحكاتي التي تبدوا بأنها أتنفس ما بداخلي من الوجع
والأنين وثرثرتي العفويّة أمام (ماميتا الحبيبة) بدأت أداعب تراب حارتنا وكأنها
تجدد بعلاقة حبّ أزليّ بيني وبينها بعد طول غياب وقطيعة لاترحم!، كنت أتفرج عمّا
بداخلي حين التقيت مع فتيان المدينة وخيرتها في (فندق هلوقوا) لنشرب الشاي
الصومالي بامتياز هناك ونبتسم سويّا لنعبّر مدى الإشتياق بيننا، وإن كانت الجلسة
تشمل بزملاء نلتقي ولأول مرّة في حياتنا إلّا أنها لم تكن تفرق بين الغريب عليّ
وغيره طالما تكيّفت سجيّتي مع سجيّتهم فورا وبدون مقابل أو تلميح، تلك الجلسة
الرباعية الأبعاد كان الأديب والشاعر أحمد ولي شريف والصديق محمد عبدالرحمن
-الضحاك الذي يشبه الرئيس حسن بامتياز في ضحكاته الغير محدودة وابتساماته التي
تسحر العيون- في خطوط موازية بخطي الذي كان يشمل معي الصديق عبدالغني موغي -الذي
يتغلب عليه التواضع رغم مافي قريحته من حكايات أدبية وأدلّة دينية وغيرها-
فتجاذبنا أطراف الحديث الى ساعة متأخرة اضطررنا الى اختتام الجلسة المباركة لمشاغل
كثيرة كانت تلاحقنا.
ولا
أنسى أيضا بتلك الجلسة الميثالية التي ضمتني الى ساحة الزميلة والمربية حفصة محمود
-التي لم تفقد بريقها الحضاري والتى احتوت بمعنى (الشقيقة) بأجمل حروفها التي يمكن
أن يتصوره انسان من مشاعر صادقة من عطف وحنان وإيثار، هي كالسند والصديقة التي تحمل
إسما مميزا ورونقا خاصا يترجم عن معنى المرأة المسلمة في العصر الحديث، ملهمة من الدرجة
الأولى للمقبلين على قلعة العلم والأدب وموئلة تعرف مزيدا من المسائل الدقيقة للدين
الحنيف حيث لم تزل تحافظ علي أصالتها وطابعها الصومالي العريق وتقاليدنا الشريفة-؛
لتكون الجلسة خماسيّة الأبعاد وكماكنت أحلم في أيام غربتي، فكانت استضافتها نکهة
یومي وحبورا صافیا ومسراتا لا تنتهی بالفعل!.